الكُتَّاب
ظل الطفل متشبساً بشباك السرير النحاسي
الأصفر الكبير ذو
الأعمدة الأربع الملفوفة من أعلى بالستائر
في غرفة جدته وأبوه يجذبه
بقوة من الخلف دون جدوى بينما صراخ الطفل يعلو ويزداد ثم ينجح أبوه بعد عناء أن يفلته من شباك السرير
كي يذهب به إلى الكُتّاب الذي لايبعد كثيرا عن البيت والولد الصغيرالذي لايزيد عمره عن الخمسة
أعوام إلا بقليل يأبى ويرفض ويصرخ بشدة
ولاأحد يعرف سبب رفضه الذهاب للكُتّاب بعد شهورعديدة كان
منتظما فيها ولم يكن يشكو من شىء وفجأة بدأ يختلق الأعذار ولم يذهب للكُتّاب لمدة يومين وفي اليوم الثالث جاء طفلان من الكُتّاب بعثهما الشيخ أحمد "صاحب الكُتّاب " يسألان عنه ويُحضرانه بعد أن لاحظ تغيبه دون سبب فاضطر الطفل للذهاب معهما وبكاؤه لاينقطع ... في البداية
كان الكُتّاب عالما
جديدا على الطفل فلأول مرة يخرج من البيت في الصباح ويغيب عن أمه ويختلط بأطفال
آخرين خارج نطاق أسرته ولايعود لها إلا قبل العصر بقليل وفي كل مرة كانت أمه تعطيه عند ذهابه للكُتّاب سندوتشات الجبنه بالبلح
الأمهات وسندوتشات البيض بالملح وأحيانا بيض بالعجوة وتعريفه (خمس مليمات) مصروفا
له، شيئا فشيئا تعود وإندمج في عالم الكُتّاب الذي تعلم فيه للمرة الأولى حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء ثم
تعلم القراءة والكتابة وكذلك الأرقام وحل
بعض مسائل الحساب البسيطة من جمع وطرح وضرب وقسمة هذا بالإضافة لحفظه للقرآن ، كان "العرّيف" الذي يعمل بالكُتّاب يبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عاما ُوإسمه "محمد الحشاش"
يُحفّظه القرآن مع بعض الأطفال الآخرين ورغم أنه كان أصغرطفل فيهم إلا أن إستيعابه
وحفظه للقرآن كان أسرع وأفضل ورغم ذلك كان
العرّيف "المُعلِّم الصغير" يسأله أول مايأتي عن السندوتشات التي يحملها
ويلتهمها منه والطفل لايهتم إلا أنه حين
تكرر ذلك كل يوم طلب من أمه مضاعفة السندوتشات لأنها لاتكفيه ،في البداية سارت
الأمور بشكل طبيعي ومعتاد في الحضور للكُتاب والحفظ والتسميع وفي المروَّح أي العودة إلى
البيت وكل فترة وبعد حفظ عدد معين من سور القرآن يقوم العرّيف بعرض الأطفال
المسئول عنهم على الشيخ أحمد صاحب الكُتّاب ليُسمّعوا
ماحَفِظوه من القرآن أمامه وكان للشيخ أحمد طقوس لاتتغير ففي صباح كل يوم تحضر له إبنته
وجبة الإفطار وكانت عبارة عن طبق كبير مملوء بعدة قطع كبيرة من الجبن القريش وطبق
آخر به ست أوسبع بيضات وعدة أرغفة وينهي وجبته بكوب كبير من الشاي الأسود فنتوقف
عن التسميع بمجرد أن يبدأ الشيخ في التهام وجبته
وسط نظرات الأطفال المحرومين والجوعى وحين ينتهي الشيخ يبدأ الأطفال مرة
أخرى في تسميع ماحفظوه والفلكة كانت في إنتظارمن لم يحفظ حيث يتم مدّه علي قدمية
وسط صراخ الطفل المضروب وضحكات الأطفال
الآخرين ، كان الطفل يحفظ بشكل جيد فأتم حفظ جزء عمّ بعد فترة وجيزة مع بعض
الأطفال الآخرين فقام الشيخ بعمل إحتفال بسيط كان ينشد فيه مع الأطفال أبيا ت غريبه ربما تكون من نظم الشيخ نفسه يقول فيها (الشيخ أحمد شرب شَربَه *له سكينه
وله حربَه *له عيال منقيه *تحت العرش مخبيه *هو ولد ولّا بنت* هو ولد زي القرد )...كان
أكثر مايُمتع الطفل بعد إنتهائه من الكُتّاب وهوعائد الى البيت ذهابه للعب مع الأطفال في قطعة أرض فضاء واسعة مزروعة
بالحشائش تقع في منتصف المسافة مابين الكُتّاب وبيته تسمى "الحَلفا
" وهونوع من النباتات "بيطلع شيطاني "كما كان يردد الأطفال لأنها كانت تنبت وحدها عشوائيا بدون رعاية من أحد مع بعض الورود والنباتات
الأخرى فيلعبون ويمرحون بقدر مايسمح به وقتهم ثم يقطفون بعض الورود ويحملون معهم قطع
الحجر الجيري الأبيض الذي يجدونه متوفرا
بأجزاء من أرض "الحلفا " ويستعملونه كطباشير يخططون به الأرض للعب كرة القدم أو
لعبة "الأولى" ويرسمون على حيطان البيوت في شوارعهم وحواريهم قبل
أن يعودوا إلى بيوتهم تملؤهم السعادة
والنشوة،وبعد مرورمايقرب من تسعة شهورعلى وجوده بالكّتاب تغيرت فيها أشياء كثيرة كان
لابد أن يتصادم الطفل مع العرّيف الذي كانت
علاقته به في البداية علاقة عادية ثم تحولت بمرور الأيام والشهورإلى نفور وكراهية
لأن العرّيف كان يعامله بغلظة في بعض الأحيان ربما بسبب سوء حفظه لبعض الآيات والأهم
أنه كان يشاركه أكله وأحيانا مصروفه فتعمد عدة مرات ألا يُحضر معه طعامه وإذا جاء به
يخفيه عنه ولايعطية شيئا منه فتنمّر له
العرّيف وطلب منه بهدوء في صباح أحد الأيام التعاون معه والقيام بتحفيظ الأطفال الأصغر منه فهوالآن لم
يعد صغيرا وأصبح شخصا مختلفا يحفظ جزئين كاملين من القرآن(عم وتبارك) ويقترب من
الإنتهاء من الجزء الثالث(قد سمع) وعليه أن يساعده في تعليم الصغار،نزل على الطفل
سهم الله ولم يتفوه بكلمة وماذا عليه أن يقول إلا أن يلتزم بما طلِب منه وهاهو يفعل ، كان الطفل يقرأ الأية بصوت
مرتفع ثم يرددها الصغار وراءه وهكذا مرات عديدة حتى يتم حفظ سورة صغيرة كاملة ثم ينتقل للسورة التي وراءها وهكذا
دواليك حتى تعب الطفل وبح صوته من كثرة القراءة والتكرار بصوت عال ،أحس الطفل
بصعوبة ومشقة هذة المهمة الثقيلة الملقاة على عاتقه وغير المؤهل لها ولكنه ملزم
بها وهو ماأرهقه وضايقه وتبرم منه وعكنن عليه حتى أنه كان يكلم نفسه
ويردد "ألا يكفية أن يحفظ هو حتى يُحفِّظ الآخرين أيضا؟!"ولكنه قبل
المهمة المكلف بها على مضض ولم يكن يستطيع أن يشتكي أويرفض ،ومرت الأيام وذات مرّة وقبل الإنصراف في نهاية اليوم طلب منه
العرّيف الإشراف معه على تنظيف الكُتّاب الذي يقوم به الأطفال البُلداء
الذين تم عقابهم وضربهم بالفلكة خلال
اليوم حيث يقوموا برفع الحُصر من على الأرض ثم يتم كنس أرضية الكُتّاب الممتلئة بالأتربة ورشها بالماء
ثم يعيدوا فرش الحُصر مرةأخرى وهم يشعرون بالحسرة والمرارة وهم يرون
الأطفال الآخرين ينصرفون مبكرين لبيوتهم وأصبح هذا التكليف بالإشراف على تنظيف الكُتّاب أيضا من ضمن مهامه اليومية ،
أخذ الطفل يحدّث نفسه ألا يكفيه تعليم الصغار وكمان مشرف على النظافة وماذنبه هو
حتى يتأخر معهم و لاينصرف في ميعاده و يُحرم
من متعة الذهاب واللعب في "الحلفا" ...تمر الشهور ومرّة وراء مرّة يزداد
إحساس الطفل بالغُبن وأنه يتم تحميله بأعباء أكبر من سِنه وكأنه يُعاقب بلا سبب فجُن
جنونه وكرِه الكُتّاب
والعرّيف والأطفال البُلداء الذين يُغلّبونه
في الحفظ وأسَّر في نفسة أنه لابد من غلق صفحة الكتّاب وإلى الأبد فبدأ يختلق
الأعذار كل يوم حتى لايذهب للكُتّاب وفي كل مرة كانوا يُحضِرونه
بالقوة حتى بلغ سن السادسة وبدأ يذهب للمدرسة
الإبتدائية ومع محاولة الأسرة أن يستمر في ذهابه للكُتّاب بالتزامن مع ذهابه للمدرسة إلا أن الطفل صمم على عدم ذهابه للكُتّاب مرة أخرى فكان كل يوم يزداد صراخه وعويله وحُرونِه عند محاولة
أخذه للكُتّاب بالعافية بالإضافة إلى
إدعائه بأن تطاير التراب عند تنظيف أرضية الكُتّاب يؤثر على صدره ويصيبه بالحساسية
وكذلك عدم إستطاعته التوفيق بين واجبات المدرسة والكتّاب معاً،وكان الأب
والأم يتناقشان كثيرا حول ذهاب الطفل للكُتاب من عدمه خصوصا في الفترات الأخيرة
والتي كان يشكو فيها الطفل بإستمرار من الكُتاب والعرّيف وجو الكُتاب الخانق بسبب كثرة
الأطفال فيه وازدحامة إلا أنهما لم يحسما الأمر إلا بعد أن أشفقا على ابنهما وخافا
أن يصاب فعلا بمرض حساسية الصدر ،وأخيراً رضخت الأسرة للولد الصغير الذي نجح في
تنفيذ خطته واستسلمت له فترك الكُتّاب نهائيا وبلا رجعة ،كبُرالطفل الآن وتعدى الخمسين من العمر وحين يتذكر
كل مامر به يشُده الحنين والشوق لتلك الأيام البِكرأيام البراءة الأولى والطفولة الجميلة
الممتلئة بالحيوية والمختلطة بالأفراح والأحزان والبساطة في التعامل بقلب أبيض بلا
كراهية ولاحقد بلاغل ولاحسد يمرح ويلعب ويعيش يوما بيوم بل ساعة بساعة ولايفكر أو يخطط
للغد ، لكنه يندم بشدة ويتحسر على مافات وضاع من عمره ولم يستفد منه بشىء وعلى عدم
إستمراره في الذهاب للكُتّاب فرغم قصر المدة التي قضاها فيه(مايقرب من عام) إلاأن لها أثرعظيم في حياته فقد حَبَبَته في
اللغة العربية وفي القراءة وجعلته لايُلحن
في قرآءة القرآن ومن الذكريات المؤلمة والمفجعة في حياته حين يتذكر أنه حين كان في
الثالثة والعشرين من عمره وكان قد تخرج من الجامعة والتحق كعسكري مجند بالجيش
المصري وفي أحد الليالي كان يؤدي خدمته وحيدا في جوف الليل بالمعسكر وكان الجو موحشا ومخيفا فأراد أن يُسَرّي عن نفسة ويستأنس بقراءة شىء من
القرآن يجلب له الطمأنينة فبدأ يقرأ غيباً "سورة العصر" وهي من أجمل
وأقصر سور القرآن الكريم فلم يستطع أن يختمها وظل متردداً هل السورة تنتهي ب (وتواصوا
بالحق وتواصوا بالصبر) أم ب (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق) ورغم بساطة السورة
ووضوحها تماما حتى ولو من خلال القافية إلا أنه عجز عجزاً تاماً عن حسم أمره إلا في صباح اليوم التالي حين فتح المصحف (الذي لم يقرَبه أو يمسَه منذ عدة سنوات) ليعرف
نهاية السورة الصحيحة لأنه خجل من أن يسأل أي شخص فيضحك عليه ويسخر منه... كانت
الفترة الممتدة من سن السادسة بداية المرحلة الإبتدائية وحتى بلغ الطفل الثلاثين من عمر فترة جدباء لم يقرأ فيها القرآن ولم يحفظ منه أية واحدة
إلا ربما ماكان مقررأ علية في المناهج والمحفوظات الدراسية وكان سريعا ماينساها
بعد إنتهاء الغرض منها وهوإمتحان نهاية العام ...ومن سن الثلاثين وحتى الآن مابعد
الخمسين وهويحاول أن يسترجع بمشقة كبيرة
حفظ ماتفَلت منه ونسيَه من القرآن إلا أن أكثر شىء يُؤلمه ويجعل الدموع
تتدفق بغذارة من عينيه بلا توقف حين يقوم
للصلاه فلا يجد مايقرأه في صلواته
كلها من سور القرآن إلابعض ما حفظه في الكُتّاب حين كان في الخامسة من عمره !
عادل حســــــــــــين مساء
الأثنين 20/11/2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق