الاثنين، 20 يناير 2014

صانع البهجة بقلم عادل حســــــــــــــــــين






صانع البهجة

 
كانت الأرض تدور دورتها العادية والنهر يتدفق  بهدوء وانتظام وفي الأفق تبدو السماء بزرقتها الصافية تتوسطها الشمس التي تلقي بأشعتها الحارقة على السائرين من أهل الحارة والقابعين داخل بيوتهم الطينية والمبنية في معظمها من دور واحد أودورين على الأكثر وكانت مستوى أرض الحارة الترابية أعلى من معظم عتبات ومداخل البيوت التي تنحدر لأسفل فإذا ماسقط المطر في الشتاء كانت تغرق هذة المداخل بالمياة قبل أن يتم نزحها وكان بيت"عم سيد" واحداً من تلك البيوت الفقيرة كغالبية بيوت المصريين وفي نفس الوقت تتحول الشوارع والحواري الى مستنقعات طينية غارقة في الوحل... في ذلك الوقت من الزمن "الذي يبدو جميلاً الآن" في أوائل السبعينات من القرن العشرين كانت الدنيا ماتزال بسيطة والعالم غير معقد كما هو الآن والناس أكثر سلاسة  في تعاملاتهم وعلاقاتهم وحتى خلافاتهم مع بعضهم البعض وكان الضحك الصافي والرائق النابع من القلب مباشرة بلا تَصَنُع ولامداهنة مازال ممكناً وبلا ثمن...كان الناس في ذلك الوقت متلاحمين متجانسين متقاربين في معيشتهم البسيطة ودخولهم المحدودة بل المتدنية ،تتشابه ملابسهم وتتلاصق بيوتهم وتتساند على بعضها البعض خوفاً ومحبةً ...كانت عاداتهم تقريباً واحدة لايمتلكون الكثير من متاع الدنيا إلا ربما ضحكاتهم وقهقاتهم العالية وأحلامهم المتواضعة والمجهضة وأحزانهم المستمرة بلا إنقطاع ولاإنتهاء ...في تلك الأيام الجميلة التي ولّت  كان عم سيد وهو مَعلَم من معالم حارتنا بل أهم مَعلَم في حَيّنا كله وشهرته تجوب آفاق الأحياء الأخرى هو فاكهة الحارة وصانع البهجة بحق وكان الأطفال ينتظرون خروجه من البيت أومجيئه من عمله ليضحكوا معه وعليه وبمجرد رؤيته يلتفون حوله ويحيونه فيوزع عليهم المِلَبِّس أو"الأرواح" كما كانوا يسمونه و"الفنضام" الذي يملأ به "سيالته" - جيب الجلابية الكبير- وكان حريصاً على ذلك رغم بؤسه وفقره الشديدين وهوالذي في حاجةٍ وبيتهِ إلى كل مليم ولكنه كان يَسعد دائماً حين يُفرِح ويُسعِد الأطفال الصغار وهو ماكان يثير حُنق إمرأته التي كانت سليطة اللسان ودائمة الشكوى فتلدغه بكلمات من نوع "بدل ماتجيب أرواح للعيال هات لنا حاجة ناكلها في البيت المخروب دة "فيتصنع الإنشغال بأي شيء كأنه لم يسمعها  ولا يعيرها إهتماماً ، وبقدر حب العيال لعم سيد كان كُرهُهم لها "... ورغم حبهم بل وعشقهم له أطلقوا عليه لقب "سيد قشطه" نظراً لضخامة جسده طولا وعرضا ولوجهه السمين (الملظلظ)  والذي يميل للحُمرة ... في بعض الأحيان يشاكسونه وينادونه بما لايُحب "ياعم سيد ياقشطة" فيستثار ويغضب بشدة وينفعل ويخرج عن شعوره ولا يتوقف عن سب دينهم ودين آبائهم وأجدادهم وكان لايتورع عن سب أي شيء وكل شيء حين يغضب- لدرجة أنه كان يتجرأ على سب الذات الإلهية – حتى أطلق عليه البعض إسم  "سيد سب الدين"فأصبح صاحب أكبر عدد من الألقاب ،يستمرعم سيد يشتم ويلعن ويُشوِّح بيديه فيهتز جسده والأطفال يتضاحكون ويتقافزون من حوله فرحين فقد نجحوا أخيراً في إغاظته وأخرجوا منه  ماكانوا يبتغونه ... كان عم سيد كغالبية أهل الحارة رجلاً فقيراً رقيق الحال ليس له دخل إلا راتبه الصغير من عمله في مصلحة المجاري وأحيانا كان يقوم بتسليك بعض البالوعات المسدودة والطافحة بأحد الشوارع أو الحواري مقابل قروش بسيطة  ورغم ذلك كان راضياً سعيداً بحاله غير ناقم على الدنيا ولاناسها ...دخل عم سيد الحارة لابساً العفريتة الزرقاء الكالحة اللون وكان عائداً لتوه من عمله ممسكا بعجلته التي تتضائل بجانبه وهو يسير بجوارها بجسده الضخم وكان وجهه السمين المشرب بالحمرة بشوشا وهو يلقي للأطفال بالتحية وهم يلعبون بالحارة "إزيكوا ياولاد" ويوزع عليهم المِلَبِّس "الأرواح" وهم يردون التحية له بأحسن منها فيبدو عم سيد "منشكحاً" ومُنشرح الصدر لاتَسعَه الدنيا والأطفال يرددون "يعيش عم سيد يا يعيش يا يعيش يعيش يعيش " فيدخل بيته مزهواً كطاووس وكأنه إمتلك الدنيا بما فيها وماعليها ممتلئاً نشوةً وسعادةً ... بمجرد دخول عم سيد غرفته بالدور الأرضي ببيته  وماهي إلا دقائق قليلة حتى نسمع صراخه عاليا "جااااااااااااااااي  أروح بس منك فين ياولية  وأبعد عن وشك العِكر ده ..صبّرني يارب ياإما تاخدها ياتاخدني" ثم يحلف عليها بالطلاق ثلاثاً "شافعي ومالك وأبوحنيفة " و يترك البيت غاضباً ووجهه مكفهر منتفخ الأوداج وهو يبرطم لاعناً زوجته "تلك المرأة القصيرة الكريهة " ساباً لدين أبوها مزيحاً أمامه أي شىء يقف في طريقه وهو لايرتدي إلا ملابسه الداخلية (الفانلة واللباس) آخذاً معه جلابيته في يديه ولا يرتديها إلاوهو في منتصف الحارة تقريباً... كانت  إمرأته دائمة  الشجار معه حول متطلبات المعيشة وكانت باستمرار "تلعن العيشة وأبو العيشة واللي عايشينها واليوم الأغبراللي إتجوزت فيه عم سيد وأنجبت منه أورطة عيال" إحتياجاتهم لاتنتهي ولكن -العين بصيرة ولإيد قصيرة -... وككل عائلات الحارة كان كل عائلة لديها ست أوسبع أطفال وكان هذا شيئاً عاديا في ذلك الوقت فلم تكن وسائل تنظيم النسل قد إنتشرت بعد ... كانت تلك المرأة قادرة على إثارة غضبه وعكننته بإستمرار حتى أنه كان كثيراً مايترك البيت بعد أن يطلقها ثلاثا في اليوم الواحد عدة مرات ولاينفذ منها شيئاً على الإطلاق ولامرّةً واحدة، فقط كان زعيقه وسبه للتنفيس ولتفريغ شحنة الغضب التي لديه ثم ينسى ماحدث بسرعة بعد لحظات قليلة ويعود للبيت وكأن شيئاً لم يكن ... كان عم سيد في فترة القيلولة يحب أن يرتاح على الكنبة المركونة في غرفته بالدورالأرضي أسفل الشباك الذي يطل على الحارة والمرصوص علية ثلاث أوأربع قلل فخار (لتبريد المياة للشرب) وبمجرد أن تأخذه سِنَةٌ من النوم  وهو مضطجع على الكنبة ممدداً جثته الضخمة  والأطفال يتصايحون وهم يلعبون الكرة في الحارة بضوضائهم وجلبتهم  ثم يخطىء أحدهم وهو"يشوط" الكرة في إتجاه المرمى فتضل الكرة طريقها وتخبط في القلل التي تسقط بقوة علي عم سيد النائم تحتها فيندلق الماء منها ويبتل عم سيد الذي يصحو مذعوراً منتصباً مرةً واحدة فتتطاير القلل وتسقط قطعاً صغيرة متناثرة على الأرض بجانب الكرة فيأخذها ويمزقها لاعناً سنسفيل جدود ودين الأطفال الذين يختفون في لمح البصر ومهدداً لهم "ياولاد الكلب هوأنا معرفش أرتاح في بيتي شوية أنا لازم أجيب أزمة وأفحرّها"-الأزمة آلة يدويه مدببة من الطرفين تستخدم في الحفر - كي تصبح الأرض غير مستوية وبالتالي تكون غير صالحة للعب الكرة وكالعادة لايفعل شيئا .. فقط يُغرق الحارة بالمياة حتى لايعود أحد من الأطفال للعب مرة أخرى ثم بعد ذلك  يعود لإستكمال نومه ... وبمرورالوقت يُعاود الأطفال لعبهم وتُعاد الكرّة مرّة تلو مرّة  ويتكرر رد فعل عم سيد والأطفال لايأبهون فقد إعتادوا عليه وحفظوه عن ظهر قلب...كان اليوم الذي يخلو من نادرة  من نوادر عم سيد غير محسوب في تاريخ حارتنا تلك الحارة التي كانت تصبح أوتمسي على إحدى نوادره التي أًلِف أهلها  التعايش معها أوسماعها حين لايكونوا حاضرين وقت حدوثها  وذات صباح باكر يصحو أهل الحارة كلهم على صوت عم سيد صارخاً مدوياً  فيفتحون شبابيكهم لإستطلاع الأمر أو يخرجون واقفين على عتبات بيوتهم لمشاهدة حركات يديه وجسده السمين لتكتمل متعة السماع  بمتعة المشاهدة فيُصدمون مما يسمعونه وهم يكتمون ضحكاتهم التي لاتلبث أن تنفجر قهقهات عالية حين يدلفون داخل بيوتهم بعد إنتهاء المشهد ، وصوت عم سيد مازال يجلجل ويرن في الفضاء الذي يردد صدى صوته ..."الواد آل إيه مش عارف..هو طالما إبن الوسخة مبيعرفش يتنيل ...ي ن ي ك .... بياخد بنات الناس ليه ويبهدلها معاه ؟! البت إستحملت إسبوع وإتنين قلنا يمكن يتحسن لكن مفيش فايدة طب نعملّه إيه ده؟ نجيب له واحد ينام معاها ...ي ن ي ك هـ ا له؟! ووو..." وامرأته تشده للخلف لتُدخله البيت قائلة "بلاش فضايح جَرَّستِنا وفَضحتِنا الله يخرب بيتك خُش جوه كفايه فضايح" وكانت إبنة عم سيد قد تزوجت من إسبوعين ولم يستطع زوجها أن يدخل عليها ورغم كل محاولات العلاج لدى الأطباء والذهاب للدجالين إلا أن كلها باءت بالفشل فلم يكن  هناك بُد من أن تعود البنت لبيت أبيها مع كامل"عفشها"  -منقولاتها الزوجية - ورغم أن هذا الموضوع كان سراً إلا أن بعض المقربين منهم من أهل الحارة كانوا يتداولونه همساً فيما بينهم ولم يكن يجرؤ أحد على التساؤل علنا عنه حتى جاء عم سيد وتبرع من تلقاء نفسه وأفشى السر وقام بنشره على رؤؤس الأشهاد  دون أن يسأله أحد... كان عم سيد لايصلي إلا نادراًوغالباً ماتكون صلاة جمعة وفي إحدى هذة  المرات دخل الجامع ليصلي الجمعة وكان قد إشترى شبشباً جديداً  فوضع " شبشبه " الجديد مكان وضع الأحذية بالجامع ثم جلس يستمع للخطبة وإستند على أحد أعمدة الجامع وراح في سبات عميق مصحوباً بشخيره الذي بدأ يعلو شيئاً فشيئاً والمصلون ينظرون اليه مبتسمين ولايجرؤ أحد منهم أن يوقظه حتى إنتهت الخطبة وأُقيمت الصلاة فأيقظه المصلون وطلبوا منه الوضوء لأنه نام فاستنكرذلك بشدة ولم يتوضأ من جديد وأخبرهم أنه لم ينم وكان مستيقظاً يستمع للخطبة بعد أن كاد أن يتشاجر معهم ،إنتهت الصلاة وعم سيد يبحث عن "شبشبه" فلا يجده إنتظر حتى فرغ الجامع كله وظل متواجداً بالجامع لعل أحد المصلين يكون قد أخذه بالخطأ فيعيده إليه لكن أحدا لم يأتِ ،أعطاه خادم  الجامع شبشباً قديماً متهالكاً ليعود به للبيت فرفض أن يأخذه وخرج حافياً من الجامع في سورة غضبه لاعنا الجامع والمصلين الحراميه ولاد دين ال....ثم نظر ناحية السماء وقال غاضباً ومعاتباً "يعني أنا جاي أصلي لك تقوم تخلّي"ولاد الشرموطة "اللي بيصلوا يسرقوا شبشبي طب عليّ الطلاق تلاته مُردفاً ديباجته المعتادة- شافعي ومالك وأبوحنيفة - مانا داخلّك جامع تاني ...وشوف بقى مين فينا الخسران ؟!" ورجع بيته حافياً وسط تندر الأطفال عليه بعد إنتشار الخبر  "هو فين شبشبك ياعم سيد" ؟!"فيرد عليهم إمشي يابن دين ال..... منك له "ويسرف في سب الدين لهم ولأهاليهم وسط ضحكات الشياطين الصغار حتى يبح صوته فيسكت... يضيق الحال بعم سيد داخل البيت "وهويضيق به كل يوم "بعد تشاجره المعتاد مع إمرأته وأولاده فلا يجد مكان يرتاح فيه إلا على القهوة "قهوة عدلي" وكانت لاتبعد كثيراً عن البيت وتقع على ناصية الحارة ، كانت القهوة المكان المفضل لعم سيد يقضي فيه كل وقته خارج البيت سعيداً وبعيداً عن خناقات الولية مراته وطلبات عياله وكثيراً مايجلس في القهوة يشرب الشاي ويدخن الشيشة  وجيوبه خاوية ولكن دائماً كان عنده أمل أن يكسب في كل مرة يلعب فيها الدومينو على المشاريب أوعلى قروش بسيطة وكثيراً ماكان الحظ يوافقه فيقوم مبسوطاً فرحاً منتفخاً من السعادة فقد شرب ودخن وربما أكل بعض أرغفة "السِمين والكفتة" ببعض القروش القليلة التي كسبها وكان يستخف بمنافسيه حين يفوز في اللعب وهو يقوم "يشخلل" القروش التي في سيالته وهوالذي دخل القهوة وجيوبه خاويه قائلاً لهم "مش بقولكوا إنتوا لسه تلامذة مبتدئين إبقوا تعالوا لي أعلمكوا إزاي تلعبوا دومنه" ويعود الى بيته بعد أن يكون الوقت قد قارب على منتصف الليل... لم يكن عم سيد في كل مرة يفوزفي مراهنات الدومينو وأحياناً كان يخسر عدة أدوار وحين يستشعر أنه لن يستطيع أن يعوض مافاته من خسارة كان كثيراً ما "يُحَمرِق"  أي - يختلق أي شىء ليعمل منه مشكلة جانبية ليهرب من المشكلة الأصلية- فيتشاجر مع من يلعب معهم ويسب لهم الدين فيتجمع رواد القهوة كلهم ووسط الجلبة والدوشة التي تحدث يكون هو قد تسرب من بينهم دون أن يشعربه أحد ، يحدث هذا رغم أن الذين يلعب معهم  كانوا كثيراً مايأتون به لمجرد الإئتناس بوجوده بينهم وإشاعة جو من الفكاهة والمرح والتندر والضحك عليه وعلى كلامه وحركاته وقفشاته حتى لو خسر في كل مرة ولم يدفع شىء وربما كان عم سيد يعرف ذلك كله لكنه كان يساير الأمور فماذا باستطاعته أن يفعل؟... ونظراً لطيبة قلبه و نقاء سريرته و"اللي في قلبه على لسانه" كما يقولون كان لايخفي شيئاً ولايضمر غلًا ولا ضغينة لأحد لكنه كان يعوض  ضعفه وطيبته ورقة حاله  بالزعيق والصوت العالي وسب الدين ...في إحدى المرات كان يلعب الدومينو مع الداهية عم إبراهيم درويش(المِبَلَّط)وكان نحيفاً طويلاً أسمر البشرة وكان الرهان على مبلغ أكبر من المعتاد كل مرة وكانت تلك الليلة من المرات التي لم يواتِ الحظ فيها عم سيد وكان يجلس حول كل ترابيزة لعب مجموعة من المتفرجين ومشاريبهم على حساب اللاعبين الخاسرين وقبل النهاية وكعادة عم سيد عندما يحس أنه لاأمل في أن يكسب ويعوض خسارته زمجر وسب الدين لمن يجلسون بجانبه وحوله ثم نهض واقفا مشوحاً بيديه ضارباً ترابيزة اللعب بقدمه فأختلطت أوراق اللعب - قطع الدومينو- ببعضها وشخر شخرةً مدويةً مردداً "أحّاااااااااااااااااا" ووجه كلامه لإبراهيم درويش مباشرةً قائلاً له والرزاز يتطايرمن فمه "إنت غشاش وحرامي بتسرق في اللعب  وكمان "ألاضيشك" اللي إنت مقعدهم حواليا بيكشفوا لك الورق ..عليّ الطلاق مانا مكمل لعب ياغشاشين ياولاد دين  ال...." صمت الجميع ونظروا له في ذهول وهنا قام له إبراهيم درويش وعلى وجهه وجوم وغضب حقيقي قائلاً له "لأ مش كل الطيراللي يتاكل لحمه إنت هتعمل عليَّ أنا الشويتين بتوعك دُول ..مش عليَّ أنا حركاتك القرعة دي ..إسمع "ياسيد يامقلد" عليّ الطلاق ماإنت مروّح إلّا لمّا تدفع حساب المشاريب وتسدد اللي عليك كله وإلّا هَقلعك ملط وآخد هدومك رهن لحد ماتدفع يإما هقتلك" هنا أًسقط في يد عم سيد بعد أن أحس بجدية التهديد فازداد وجهه إحمراراً على إحمرار وبدأ جسده يهتز وينتفض من التوتر والقلق والخوف ولم يدر ماذا يفعل سوى أن يتجه ببصره نحو مَقام "سيدي ذَكَري" والذي يقع في آخر الشارع واضعا ذيل جلابيته في أسنانه وهو يجري بأقصى سرعة باتجاهه زاعقاً بأعلى صوته  وبعزم مافيه "إلحقني ياسيدي ذكري حُوش إبراهيم درويش عني...إبراهيم درويش عايز يموتني ياسيدي ذكري...ياسيدي ذكري حُوش إبراهيم درويش عني"  .... وإختفى عن الأنظار .
عادل حســــــــــــــين مساء الأثنين 25/11/2013

السبت، 11 يناير 2014

الكُتَّاب ... بقلم عادل حســــــــــــــــــين



 الكُتَّاب






ظل الطفل متشبساً بشباك السرير النحاسي الأصفر الكبير ذو
الأعمدة الأربع الملفوفة من أعلى بالستائر في غرفة جدته وأبوه يجذبه بقوة من الخلف دون جدوى بينما صراخ الطفل يعلو ويزداد  ثم ينجح أبوه بعد عناء أن يفلته من شباك السرير كي يذهب به إلى الكُتّاب الذي لايبعد كثيرا عن البيت والولد الصغيرالذي لايزيد عمره عن الخمسة أعوام إلا بقليل  يأبى ويرفض ويصرخ بشدة ولاأحد يعرف سبب رفضه الذهاب للكُتّاب بعد شهورعديدة كان منتظما فيها ولم يكن يشكو من شىء وفجأة بدأ يختلق الأعذار ولم يذهب للكُتّاب لمدة يومين وفي اليوم الثالث جاء طفلان من الكُتّاب بعثهما الشيخ أحمد "صاحب الكُتّاب " يسألان عنه ويُحضرانه بعد أن لاحظ تغيبه  دون سبب فاضطر الطفل  للذهاب معهما وبكاؤه لاينقطع ... في البداية كان الكُتّاب عالما جديدا على الطفل فلأول مرة يخرج من البيت   في الصباح ويغيب عن أمه ويختلط بأطفال آخرين خارج نطاق أسرته ولايعود لها إلا قبل العصر بقليل وفي كل مرة كانت أمه تعطيه عند ذهابه للكُتّاب  سندوتشات الجبنه بالبلح الأمهات وسندوتشات البيض بالملح وأحيانا بيض بالعجوة وتعريفه (خمس مليمات) مصروفا له، شيئا فشيئا تعود وإندمج في عالم الكُتّاب الذي تعلم فيه للمرة الأولى  حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء ثم تعلم القراءة والكتابة وكذلك الأرقام  وحل بعض مسائل الحساب البسيطة من جمع وطرح وضرب وقسمة  هذا بالإضافة لحفظه للقرآن ، كان "العرّيف"  الذي يعمل بالكُتّاب يبلغ من العمر حوالي خمسة عشر عاما ُوإسمه "محمد الحشاش" يُحفّظه القرآن مع بعض الأطفال الآخرين ورغم أنه كان أصغرطفل فيهم إلا أن إستيعابه وحفظه للقرآن  كان أسرع وأفضل ورغم ذلك كان العرّيف "المُعلِّم الصغير" يسأله أول مايأتي عن السندوتشات التي يحملها ويلتهمها منه  والطفل لايهتم إلا أنه حين تكرر ذلك كل يوم طلب من أمه مضاعفة السندوتشات لأنها لاتكفيه ،في البداية سارت الأمور بشكل طبيعي ومعتاد في الحضور للكُتاب والحفظ والتسميع وفي   المروَّح أي العودة إلى البيت وكل فترة وبعد حفظ عدد معين من سور القرآن يقوم العرّيف بعرض الأطفال المسئول عنهم على الشيخ أحمد صاحب الكُتّاب ليُسمّعوا ماحَفِظوه من القرآن أمامه وكان للشيخ أحمد طقوس لاتتغير ففي صباح كل يوم تحضر له إبنته وجبة الإفطار وكانت عبارة عن طبق كبير مملوء بعدة قطع كبيرة من الجبن القريش وطبق آخر به ست أوسبع بيضات وعدة أرغفة وينهي وجبته بكوب كبير من الشاي الأسود فنتوقف عن التسميع بمجرد أن يبدأ الشيخ في التهام وجبته  وسط نظرات الأطفال المحرومين والجوعى وحين ينتهي الشيخ يبدأ الأطفال مرة أخرى  في تسميع ماحفظوه والفلكة  كانت في إنتظارمن لم يحفظ حيث يتم مدّه علي قدمية وسط صراخ الطفل  المضروب وضحكات الأطفال الآخرين ، كان الطفل يحفظ بشكل جيد فأتم حفظ جزء عمّ بعد فترة وجيزة مع بعض الأطفال الآخرين فقام الشيخ بعمل إحتفال بسيط كان ينشد فيه مع الأطفال  أبيا ت غريبه ربما تكون من نظم الشيخ نفسه  يقول فيها (الشيخ أحمد شرب شَربَه *له سكينه وله حربَه *له عيال منقيه *تحت العرش مخبيه *هو ولد ولّا بنت* هو ولد زي القرد )...كان أكثر مايُمتع الطفل بعد إنتهائه من الكُتّاب وهوعائد الى البيت  ذهابه  للعب مع الأطفال في قطعة أرض فضاء واسعة مزروعة بالحشائش تقع في منتصف المسافة مابين الكُتّاب وبيته  تسمى "الحَلفا " وهونوع من النباتات "بيطلع شيطاني "كما كان يردد الأطفال  لأنها كانت تنبت وحدها عشوائيا  بدون رعاية من أحد مع بعض الورود والنباتات الأخرى  فيلعبون ويمرحون بقدر مايسمح  به وقتهم ثم يقطفون بعض الورود ويحملون معهم قطع الحجر الجيري الأبيض  الذي يجدونه متوفرا بأجزاء من أرض "الحلفا " ويستعملونه كطباشير يخططون به الأرض للعب كرة القدم أو  لعبة "الأولى" ويرسمون على حيطان البيوت في شوارعهم وحواريهم قبل أن  يعودوا إلى بيوتهم تملؤهم السعادة والنشوة،وبعد مرورمايقرب من تسعة شهورعلى وجوده بالكّتاب تغيرت فيها أشياء كثيرة كان لابد أن يتصادم الطفل مع  العرّيف الذي كانت علاقته به في البداية علاقة عادية ثم تحولت بمرور الأيام والشهورإلى نفور وكراهية لأن العرّيف كان يعامله بغلظة في بعض الأحيان ربما بسبب سوء حفظه لبعض الآيات والأهم أنه كان يشاركه أكله وأحيانا مصروفه فتعمد عدة مرات ألا يُحضر معه طعامه وإذا جاء به يخفيه عنه ولايعطية شيئا منه  فتنمّر له العرّيف وطلب منه بهدوء في صباح أحد الأيام التعاون معه  والقيام بتحفيظ الأطفال الأصغر منه فهوالآن لم يعد صغيرا وأصبح شخصا مختلفا يحفظ جزئين كاملين من القرآن(عم وتبارك) ويقترب من الإنتهاء من الجزء الثالث(قد سمع) وعليه أن يساعده في تعليم الصغار،نزل على الطفل سهم الله ولم يتفوه بكلمة وماذا عليه أن يقول إلا أن يلتزم بما طلِب  منه وهاهو يفعل ، كان الطفل يقرأ الأية بصوت مرتفع ثم يرددها الصغار وراءه وهكذا مرات عديدة حتى يتم حفظ سورة صغيرة  كاملة ثم ينتقل للسورة التي وراءها وهكذا دواليك حتى تعب الطفل وبح صوته من كثرة القراءة والتكرار بصوت عال ،أحس الطفل بصعوبة ومشقة هذة المهمة الثقيلة الملقاة على عاتقه وغير المؤهل لها ولكنه ملزم بها  وهو ماأرهقه وضايقه  وتبرم منه وعكنن عليه حتى أنه كان يكلم نفسه ويردد "ألا يكفية أن يحفظ هو حتى يُحفِّظ الآخرين أيضا؟!"ولكنه قبل المهمة المكلف بها على مضض ولم يكن يستطيع أن يشتكي أويرفض ،ومرت الأيام وذات مرّة  وقبل الإنصراف في نهاية اليوم  طلب منه  العرّيف الإشراف معه على تنظيف الكُتّاب الذي يقوم به  الأطفال البُلداء الذين تم عقابهم وضربهم  بالفلكة خلال اليوم حيث يقوموا برفع الحُصر من على الأرض ثم يتم كنس أرضية  الكُتّاب الممتلئة بالأتربة ورشها بالماء  ثم يعيدوا فرش الحُصر مرةأخرى وهم يشعرون بالحسرة والمرارة وهم يرون الأطفال الآخرين ينصرفون مبكرين لبيوتهم وأصبح هذا التكليف بالإشراف على تنظيف الكُتّاب أيضا من ضمن مهامه اليومية  ، أخذ الطفل يحدّث نفسه ألا يكفيه تعليم الصغار وكمان مشرف على النظافة وماذنبه هو حتى  يتأخر معهم و لاينصرف في ميعاده و يُحرم من متعة الذهاب واللعب في "الحلفا" ...تمر الشهور ومرّة وراء مرّة يزداد إحساس الطفل بالغُبن وأنه يتم تحميله بأعباء أكبر من سِنه وكأنه يُعاقب بلا سبب فجُن جنونه وكرِه الكُتّاب والعرّيف والأطفال البُلداء الذين يُغلّبونه في الحفظ وأسَّر في نفسة أنه لابد من غلق صفحة الكتّاب وإلى الأبد فبدأ يختلق الأعذار كل يوم حتى لايذهب للكُتّاب وفي كل مرة كانوا يُحضِرونه بالقوة حتى بلغ سن السادسة وبدأ يذهب للمدرسة  الإبتدائية ومع محاولة الأسرة أن يستمر في ذهابه للكُتّاب بالتزامن مع ذهابه للمدرسة إلا أن الطفل صمم على عدم ذهابه للكُتّاب مرة أخرى فكان كل يوم يزداد صراخه وعويله وحُرونِه عند محاولة أخذه  للكُتّاب بالعافية  بالإضافة إلى إدعائه  بأن تطاير التراب عند تنظيف أرضية الكُتّاب يؤثر على صدره ويصيبه بالحساسية  وكذلك عدم إستطاعته التوفيق بين واجبات المدرسة والكتّاب معاً،وكان الأب والأم يتناقشان كثيرا حول ذهاب الطفل للكُتاب من عدمه خصوصا في الفترات الأخيرة والتي كان يشكو فيها الطفل بإستمرار من الكُتاب والعرّيف وجو الكُتاب الخانق بسبب كثرة الأطفال فيه وازدحامة إلا أنهما لم يحسما الأمر إلا بعد أن أشفقا على ابنهما وخافا أن يصاب فعلا بمرض حساسية الصدر ،وأخيراً رضخت الأسرة للولد الصغير الذي نجح في تنفيذ خطته  واستسلمت له  فترك الكُتّاب نهائيا وبلا رجعة ،كبُرالطفل الآن وتعدى الخمسين من العمر وحين يتذكر كل مامر به يشُده الحنين والشوق لتلك الأيام البِكرأيام البراءة الأولى والطفولة الجميلة الممتلئة بالحيوية والمختلطة بالأفراح والأحزان والبساطة في التعامل بقلب أبيض بلا كراهية ولاحقد بلاغل ولاحسد يمرح ويلعب ويعيش يوما بيوم بل ساعة بساعة ولايفكر أو يخطط للغد ، لكنه يندم بشدة ويتحسر على مافات وضاع من عمره ولم يستفد منه بشىء وعلى عدم إستمراره في الذهاب للكُتّاب فرغم قصر المدة التي قضاها فيه(مايقرب من عام)  إلاأن لها أثرعظيم في حياته فقد حَبَبَته في اللغة العربية  وفي القراءة وجعلته لايُلحن في قرآءة القرآن ومن الذكريات المؤلمة والمفجعة في حياته حين يتذكر أنه حين كان في الثالثة والعشرين من عمره وكان قد تخرج من الجامعة والتحق كعسكري مجند بالجيش المصري وفي أحد الليالي كان يؤدي خدمته وحيدا  في جوف الليل بالمعسكر وكان الجو موحشا ومخيفا  فأراد أن يُسَرّي عن نفسة ويستأنس بقراءة شىء من القرآن يجلب له الطمأنينة فبدأ يقرأ غيباً "سورة العصر" وهي من أجمل وأقصر سور القرآن الكريم فلم يستطع أن يختمها وظل متردداً هل السورة تنتهي ب (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) أم ب (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق) ورغم بساطة السورة ووضوحها تماما حتى ولو من خلال القافية إلا أنه عجز عجزاً تاماً عن حسم أمره  إلا في صباح اليوم التالي حين فتح المصحف  (الذي لم يقرَبه أو يمسَه منذ عدة سنوات) ليعرف نهاية السورة الصحيحة لأنه خجل من أن يسأل أي شخص فيضحك عليه ويسخر منه... كانت الفترة الممتدة من سن السادسة بداية المرحلة الإبتدائية وحتى بلغ  الطفل الثلاثين من عمر فترة  جدباء لم يقرأ فيها القرآن ولم يحفظ منه أية واحدة إلا ربما ماكان مقررأ علية في المناهج والمحفوظات الدراسية وكان سريعا ماينساها بعد إنتهاء الغرض منها وهوإمتحان نهاية العام ...ومن سن الثلاثين وحتى الآن مابعد الخمسين وهويحاول أن يسترجع بمشقة كبيرة  حفظ ماتفَلت منه ونسيَه من القرآن إلا أن أكثر شىء يُؤلمه ويجعل الدموع تتدفق بغذارة من عينيه بلا توقف حين يقوم  للصلاه فلا يجد مايقرأه في  صلواته كلها من سور القرآن إلابعض ما حفظه في الكُتّاب حين كان في الخامسة من عمره !
عادل حســــــــــــين مساء الأثنين 20/11/2013